الأربعاء، 7 يوليو 2010

شامة في جبين التاريخ

شامة في جبين التاريخ، وغرة في ثبات المؤمنين. روى أهل السير؛ [كالذهبي] [وابن حجر] وغيرهم أن [عمر] –رضي الله عنه- وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشًا لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق الإيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله، ما علم؟ علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ، فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حيًا ويأتوه به، وشاء الله –جل وعلا- أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله –عز وجل- فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليل ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصرًا عظيمًا، وكسبًا عظيما، ذكروه لقيصرهم فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، وما راءٍ كمن سمع كما قيل، نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمرًا، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات، إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه، هيهات، أنى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية، بدأ بالإغراءات فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني -يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا -
هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ
فقال -رضي الله عنه- مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما رضيت، الله أكبر، يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وأيم الله، ما هزلت حتى يجتامها المفلسون المعرضون الجبناء، وأيم الله ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلا المعسرون المفلسون، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد، فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد، عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فورًا لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى –وحقًا إنه كسب- وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نر من أناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق، يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حفت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد. قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد كما يقولون، وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور أخي الحبيب، لك أن تتصور ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، أدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، قامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين، تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلانًا لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا) وإذا بها تصيح أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار:ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر، قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على حجر أم على بشر. الله أكبر الإغراء بالشهوة يخجل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعًا لغيرها في قلبه. كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟ كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا ولأضاءت ما بينهما؟ كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟ كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟ كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب؟ كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوبًا ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟ كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. خاب من باع باقيًا بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة. هنا يقول قيصرهم: إذًا أقتلك، انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديدًا دون نار جهنم إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك. قال –رضي الله عنه-: أنت وما تريد، افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى، فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيها الزيت، ويوقد تحتها النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه، التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله، لا إله إلا الله، والله أكبر، ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله وعبودية الله! لم يترك فيها فراغًا لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم، عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمرًا ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يراقب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه -رضي الله عنه وأرضاه- مالت عنقه من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب، فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن والذي لا إله إلا هو لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، لسان حاله
فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي
فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم
ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي
سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ
وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ
يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز والغمز واللمز يمشي على خجل وعلى استحياء، يتواري من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه فينتبه لذلك وليكن لسان الحال:
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي
كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، فقال له القيصر معجبًا بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك، وكانوا لا يعيشون لأنفسهم، قال: وعن جميع أسرى المسلمين، قال: وعن جميعهم، فقال يسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفًا وثلاثين وصيفة كما روى [ابن عائد] في السير [للذهبي]، وقدم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- بأسرى المسلمين ثابتًا كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، رأس من لا أظن أحدًا يجهل مثل هذا الرجل إنه [عبد الله بن حذافة السهمي ]-رضي الله عنه- وأرضاه، شامة في جبين التاريخ، وغرة في جبين الزمن.

الجمعة، 4 يونيو 2010

الحق يدفع الباطل

 أورد [ابن كثير] في البداية والنهاية أنه في القرن الخامس الهجري زور يهود خيبر إحدى الوثائق - وكثيرًا ما يزورون ويغشون ويكذبون ويفترون ويمكرون، وتاريخهم لا يخفى على ذي عين- زعموا في وثيقتهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسقط عنهم الجزية، وأقرهم على خيبر، يمكثون فيها ما شاءوا، وكما هو معلوم فقد أخرجهم عمر - رضي الله عنه- وما أخرجهم عبثًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حاولوا بهذه الوثيقة الرجوع إلى خيبر كما يحاولون في كل زمان وبكل الوسائل المتاحة لإطفاء النور، ولن يرضوا حتى تتبع ملتهم، والله متم نوره ولو كرهوا وخططوا ودبروا، ومكروا والله خير الماكرين، والعاقبة للمتقين زوروا الوثيقة وجاءوا بها إلى الوزير العباسي [أبي القاسم بن مسلمة]، جاءوا إليه وقالوا: معنا كتاب نبوي بإسقاط الجزية وإقرارنا على خيبر، بكتابة صحابي، وشهادة الصحابة، نظر الوزير في الوثيقة فكر وقدَّر وتأمل وتملَّى، ثم لم يفصل في المسألة، بل رد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه، دفع الكتاب -وحسنًا فعل- إلى الحافظ [الخطيب البغدادي]؛ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره، فنظر فيها ثم قال: هذا كذب والذي لا إله إلا هو، قال الوزير: كيف ذلك؟ ما دليل كذبها، أريد دليلا؟ قال: لأنها بكتابة وشهادة [معاوية بن أبي سفيان]- رضي الله عنه- ولم يكن أسلم إلا عام <فتح مكة>، فكيف يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو يشهد قبل إسلامه بعام. هذه واحدة، أما الثانية فهي بشهادة [سعد بن معاذ] -رضي الله عنه- وسعد بن معاذ قد مات بعد الأحزاب وقبل خيبر، فكيف يشهد بعد وفاته بأكثر من عام؟ فبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين، وخابوا وخسروا، أولئك في الأذلين. بذلك نقضت الوثيقة، وظهر زيفها وباطلها، ولو جيء بها إلى غير أهلها العلماء لوقعت الأمة في شباك أعدائها ولكنه العلم.

العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سوادَ الظلمة القمرُ
وقبل ذلك بعدة قرون يجئ رجل من الخوارج إلى [أبي حنيفة] -رحمه الله- فيقول له: تب وعد إلى الله، قال أبو حنيفة: مِمَّ؟ قال الخارجي: من قولك بتجويز الحكمين في الخلاف بين [علي] [ومعاوية]، والله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فقال أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الموضوع؟ قال الخارجي: قد قبلت، فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا فمن يحكم بيني وبينك؟ قال الخارجي: من شئت، قال –وكان مع الخارجي صاحب له آخر- فالتفت أبو حنيفة إلى صاحبه وقال: اقعد فاحكم بيننا فيما اختلفنا فيه إن اختلفنا، فسر الخارجي بكون صاحبه هو الحكم، عندها فاجأه أبو حنيفة قائلا: أترضى بهذا حكما بيني وبينك؟ قال: نعم، فقال أبو حنيفة: إذًا أنت جوَّزت التحكيم، فبهت الخارجي ولم يحر جوابًا، وبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين. العلم فيه حياة للقلوب؛ كما تحي البلاد إذا ما مسها المطر.

تكليف لا تشريف

 حدث [الفضيل بن الربيع] قال: حج أمير المؤمنين [هارون الرشيد] -عليه رحمة الله- قال: ثم أتاني وخرجت مسرعًا، أقول له: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، قال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر لي رجلا أسأله، فقلت له: هنا [سفيان بن عيينة]، فقال: امض بنا إليه، قال: فأتينا فقرعنا الباب، فقال: من؟ قلت: أمير المؤمنين، فخرج وقال: لو أرسلت إليَّ أتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا، انظر لي رجلا آخر أسأله، قلت: هاهنا [عبد الرزاق بن همام] قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعنا الباب وخرج إلينا، فإذا هو بأمير المؤمنين، فقال: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا [أبا عباس] اقضِ دينه، قال: فلما خرجنا قال ما أغنى عنا صاحبك شيئًا، انظر لي رجلا أسأله، قلت: هاهنا [الفضيل بن عياض] قال: امض بنا إليه، قال: فأتينا، فإذا هو قائم يتلو آية من القرآن يرددها، قال: فقرعت الباب فلم يرد، فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: فاستمر في قراءته، فقلت: أما عليك طاعة، قال: بلى، لكن ليس للمؤمن أن يذل نفسه، ثم نزل ففتح باب الدار، ثم ارتقى إلى غرفة من الغرف، وأطفأ السراج، والتجأ إلى زاوية في بيته، قال: فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا علَّنا نجده، فسبقت كف هارون إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله –عز وجل-! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام قوي من قلب تقي، قال: خذ –رحمك الله- لمجيئنا إليك، وأعطاه مالا، فقال: إن [عمر بن عبد العزيز] لما وليَ الخلافة دعا [سالم بن عبد الله]، [ومحمد بن كعب]، [ورجاء بن حيوة] فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت نعمة، خذ مالك لا أريده، ثم واصل فقال: قال له سالم: يعني قال سالم لعمر: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين لك أبًا، وأوسطهم أخًا، وأصغرهم ابنًا، ووقِّر أباك، وأكرم أخاك، واحنُ على ولدك. وقال له رجاء: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت، وإني أقول لك يا أمير المؤمنين: إني أخاف عليك أشد الخوف من يوم تذلُّ فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك بمثل ذلك، فبكى هارون بكاءً شديدًا حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع؛ تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، إن النصح رفق، النصح رفق، أفاق الرشيد وقال: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب عمر عليه قائلا: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله -عز وجل- فبكى الرشيد بكاءً شديدًا، ثم قال: زدني -رحمك الله- فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي سيسألك الله -عز وجل- عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقيَ هذا الوجه النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك؛ فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح لهم غاشًا لم يرد رائحة الجنة "
فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم أفاق وقال له: أعليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، ثم انفجر باكيًا مضطربًا كما يضطرب العصفور المبلل بالماء، ثم هدأ فقال له: أما عليك دين لعباد الله نقضيه عنك؟ قال: إن ربي أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم من رزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)

توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رَازِقِي

وما يك منْ رزقٍ فليسَ يَفوتني ولَوْ كانَ في قاعِ البِحارِ العَوَامِقِ
قال: هذه ألف دينار تقوَّ بها على عبادتك، وأنفقها على عيالك، وسد بها حاجاتهم، قال: سبحان الله! أدلك على طريق النجاة، وتكافئني بمثل هذا سلمك الله، ثم صمت فلم يتكلم بعدها، قال: فخرجنا من عنده، فلما صرنا إلى الباب قال هارون لحاجبه هذا: إذا سألتك أن تدلني على أحد فدلني على مثل هذا، فلما انصرفنا قال: دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت المال لتسد به حاجتنا، فقال لها: إنما مَثَلِي ومثلكم كمَثَل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون كلامه وهو على الباب قال: نرجع إليه فعسى أن يقبل الدراهم، فلما علم الفضيل بعودتهم خرج فجلس على سطح الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينما هم كذلك إذ خرجت جارية فقالت: يا هذا؛ قد آذيتموه هذه الليلة، دعوه مع كتاب الله وانصرفوا رحمكم الله. فانصرفوا رحم الله الجميع.

إنما هي نفس واحدة

إنما هي نفس واحدة روى [حميد بن هلال] كما في السير [للذهبي] قال: أتى بعض مخالفي أهل السنة [مطرف بن عبد الله] -عليه رحمة الله - يدعونه إلى رأيهم المخالف لأهل السنة، فقال -واسمعوا لما قال- قال: يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن تبين أن الذي تقولونه هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن إنما هي نفس واحدة، والله لا أغرِّر بها، والله لا أغرر بها. إجابة حازمة وجازمة للدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، إنما هي نفس لا يغرر بها. إجابة لمن لا يملك تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية، إنما هي نفس لا أغرر بها. إجابة حاسمة جازمة لمن يريد أن تجعل دينك دونه. إنما هي نفس واحدة لا أغرر بها. يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء إنما هي نفس واحدة، إلى عباد الأهواء والشهوات إنما هي نفس واحدة، إلى المتاجرين ببث الشبهات إنما هي نفس واحدة.
مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَّعثَ

ويَأْلفُ الظِّلَ كيْ تبقَى بَشَاشَتُهُ فسوفَ يسكنُ يَومًا راغمًا جَدَثَا

في قعْرِ مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ يُطيلُ فِي قَعْرِهَا تحتَ الثَّرَى اللَّبث

تَجَهزِي بجهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثًا
إنما هي نفس يا عبد الله فلا تغرر بها، اشترها اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود وخطير، والبضائع رخيصة وفي ذات الوقت نفيسة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير (ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ) (ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) يوم الحساب
إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عَسِيرٌ ليسَ فيه للظاَّلمينَ نَصِيرُ

الثلاثاء، 1 يونيو 2010

فِيمَ يختصمون؟

روى أن أبا بكر – رضي الله عنه وأرضاه - عيَّن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه- قاضيًا على المدينة فمكث عمرسنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر– رضي الله عنه وأرضاه - إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟ هنيئًا، ثم هنيئًا، ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك الجمع. اللهم كما حرمناه في هذه الحياة فأقر أعيننا برؤيتهم في جنات النعيم، إخوانًا على سرر متقابلين.
أولئك النَّاسُ إنْ عُدُّوا وإنْ ذُكِــرُوا وما سِوَاهُم فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ

وأحرَّ شَوقِي إليهِم كُلَّمَا هَجَست نفسِي فنفسي بهمْ مجنونة الكَلَفِ

إنِّي سَئِمْتُ هَوَى الدُّنْيَا وزَهْرَتَهَا وملَّ قَلبِي ذُرَى رَوْضَاتِها الأُنَفِ

وقد بلـوتُ لياليـهَا وأَنهُـرَها فَتَى وحُزْت لآليها مـنَ الصَّــدَفِ

فلم أجدْ غيرَ دربِ اللهِ دربَ هُدَى وغيرَ ينبوعِهِم نبعًا لمُغترِفِ

كَرِّرْ عَليَّ حدِيثَهُم يَا حادِي فحدِيثُهُم يَجْلُو الفؤادَ الصَّادِي

البداية

                                             بسم الله الرحمن الرحيم
بعد حمد الله والصلاة على رسوله أبدأ هذه المدونة برسالة التعريف بها سائلاً الله بمنه وكرمه أن يجعلها فى ميزان حسناتى وأن ينفع بها هو ولى ذلك والقادر عليه
هذه المدونة سأضع فيها بإذن الله العديد من الرسائل التى تحتوى على نتف وأخبار العلماء والقصص والمواقف الإيمانية للصحابة والتابعين ومواقف الصحابة مع النبى صلى الله عليه وسلم داعياً الله أن تزيد من همة قارئها وأن تكون فى ميزان حسناتى وأسئلكم الدعاء بالمغفرة والهداية
                            أخوكم فى الله السيد محمد الشريف